في سبتة، ليس من السهل العثور على سرير في فندق، لذلك وجدتني أردد، وأنا أخيط شوارع المدينة وأسوار قلاعها الرومانية والبرتغالية.. باحثا عن مكان يؤويني: «وفي الليلة الظلماء يفتقد الفندق». لم أفكر أنني في مدينة تلفظُ زوارَها مثلما المرأة المِزواجُ عشاقَها.
«قلتُ: فمدينة سبتة؟ قال: تلك عروسُ المَجلى وثنيةُ الصباح الأجلى. تبرجت تبرجَ العقلية ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقلية (…) إلا أنها فاغرة الأفواه، الجنوبُ للغيث المصبوبِ عرضة للرياح ذات الهبوبِ عديمة الحرث فقيرة من الحبوب. ثغر تنبو فيه المضاجع بالجنوب، وناهيك بحسنة تعد من الذنوب؛ فأحوال أهلها رقيقة وتكلفهم ظاهر مهما ظهرت وليمة أو عقيقة؛ واقتصادهم لا تلتبسُ منه طريقة…»، (لسان الدين بن الخطيب «مقامة وصف البلدان»).
عشاق سبتة مهربون، وصيارفة، وجواسيس، وعابرو مرافئ، ولصوص، وشعراء جوالون، ومشبوهون.. يدخلونها ويخرجون منها مهرولين قبل أن يشتعل رأسها نجوما. عندما فطن أصحاب الفنادق إلى أن بضاعة النوم كاسدة في مدينتهم، حوّلوا نـُزُلهم إلى مطاعم وحانات ومحلات لبيع البضائع المعلبة.. فلا أحد سينام في حضن مدينة كهذه غير أبنائها.
هنا.. في معبر سبتة الحدودي، يلفحك صهد المهربين وسحر نواياهم «الغارقة».. مهربون بكل أصناف وأصلاف المهربين: مهربو التاريخ والجغرافيا، مهربو آلام الأفارقة المستغيثين من رمضاء الصحراء بنار الحرس المدني، مهربو السوريين الفارين من الدماء إلى الهباءِ، مهربو التقارير السرية، مهربو العملة، مهربو الخوف، بوليس مهربون، جمارك مهربون، ورجال قوات مساعدة على التهريب…
عندما رأيت نساء يلتحفن، تحت ثيابهن، ضعف حجمهن من الثياب المهربة، ورجالا يضغطون بطونهم بزجاجات كحول مُزور في مرائب سرية.. تذكرت الناصري وكتابه «الاستقصا» حين حكى عن ألوان التهريب وأحابيل المهربين الذين طغوا في البلاد -قبيل الحماية- فأكثروا فيها الفساد، مما فتح الباب أمام الطامعين. كانت البواخر تغادر الموانئ المغربية في اتجاه مثيلاتها الأوربية ممتلئة بالمحاصيل، فتعود منها مشحونة بالسلع. ولكي يتهرب أصحابها من أداء ما بذمتهم من رسوم وضرائب للمخزن، وجدوا من بين موظفي «الديوانة» من يتواطأ معهم ويُدوِّن في كنانيش المراقبة العبارة التالية: «خرج فارغا ودخل فارغا لإصلاح ماكينيَّته، ولم يصلحها»! وها هي الماكينيّة لاتزال معطلة إلى اليوم.
في ساحة الخنرال سيرانو أوريبي، بقلب سبتة، عشرات السوريات والسوريين وأبنائهم ينشرون همومهم على لافتات يفترشون بعضها تحت فيءِ السور الجانبي لكنيسة القديس فرانسيسكو. حولهم يتحلق سكان المدينة كلما حملت التلفزيونات مزيدا من أخبار الموت، فتروي لهم السوريات حكاية طبيب العيون الذي أعمته السلطة ففقأ عيني بلاده، وها هي تمشي نحو المجهول متكئة على أكتاف شباب كانوا عاطلين في بلدانهم، لا يملكون غير لحاهم وبعض اليأس، قبل أن تفتح لهم تنظيمات القاعدة والنصرة وداعش.. باب «الأمل» في حمص وحلب واللاذقية.. فجاؤوا لينقذوها من بشار ويفتحوها على المجهول. في سبتة، غطت مأساة السوريين على مآسي الأفارقة ومغامرات المهاجرين السريين والأزمات في إسبانيا.
من يعرف أصل اسم المدينة، سبتة، يفهم سر حملها الأبدي بأبناء من مختلف السحنات والملامح والجنسيات.. فعلى عادتهم في أسطرة الأماكن، أطلق الرومان على الجبال السبعة، المحيطة بالمدينة اسم: «Septem Fratres» (الإخوة السبعة)؛ ومع الزمن والتواتر زال مضافُ الإخوة (Fratres) من الاسم، واستحال واقعا إثنيا ثقافيا يؤثث فضاءات المدينة ومزاجها العام، كما استحالت (Septem) سبتة أو (Ceuta).
غير بعيد عن كنيسة القديس فرانسيسكو، حيث اختار السوريون انتظار نتائج الحرب والسلم، يوجد المعبد الهندوسي ومجمع الجالية الهندية التي وُجدت في سبتة منذ القدم. وعلى مسافة غير بعيدة عن مسجد مولاي المهدي، تلقاك البيعة اليهودية القديمة. في سبتة تصرّف كل العملات والحضارات.. وتبقى المدينة ممنوعة من الصرف.
عندما أرى هذا الخليط المتناغم الذي يعتبر خاصية متوسطية بامتياز، أتذكر ما قاله الشاعر ابن سهل الإشبيلي، الإسرائيلي، الذي مات غريقا في قارب واحد رفقة ابن خلاص، حاكم سبتة: «يُسائلني من أيّ دِينٍ مُداعِبا.. وشملُ اعتقادي في هَواهُ مُبدَّدُ.. فؤادي حنيفيٌّ ولكنَّ مقلتي.. مجوسيةٌ من خده النارَ تعبدُ».