لا حديث لسكان مدن تطوان والمضيق والفنيدق هذه الأيام، إلا عن حجم الاستثمارات التي أطلقها الملك بهذه المنطقة، والتي تفوق الستين مليون درهم، والتي تأتي لتكمل ما سطره البرنامج المندمج للتنمية الاقتصادية والحضرية للمنطقة خلال الفترة الممتدة ما بين 2014 و2018. ولا غرابة أن يفخر سكان المنطقة اليوم بكل هذه المشاريع وهم يرددون أن محمد السادس هو ملك الشمال بامتياز، بعد أن اختار أن يقضي بـ«الرينكون»، كما يسميه أهل الشمال، أفضل أوقاته، خصوصا مع حلول فصل الصيف، حيث أعاد لقصره الملكي غير البعيد عن المدينة، أو قرية الصيادين سابقا، الروح. ومن هذا الفضاء، اختار الملك أن يمارس هواياته البحرية على امتداد الأبيض المتوسط، سواء مع رياضته المفضلة التجيتسكي، أو وهو يقضي أوقاتا، ليست بالقصيرة، في الصيد أو الغطس، من أجل وجبة سمك الباجو روايال، أو سمك الميرو.
على مسافة قرابة الخمسة عشر كيلومتر من مدينة تطوان، ظلت المضيق مجرد طريق صغيرة تقود الراغبين في التبضع من أسواق الفنيدق، الذي يبعد هو الآخر بنفس المسافة عن الرينكون. وظلت المنطقة تعيش أيامها الرتيبة حيث يتاجر السكان في التهريب المقنن، وفي بعض الممنوعات. فيما كان صيادو المضيق والفنيدق البسطاء يجربون حظهم مع أسماك البحر الأبيض المتوسط. كانت المسافة عبارة عن طريق محفرة يحرسها الدرك الملكي.
الطريق إلي الرينكون
وفجأة سيأتيها الفرج من ملك البلاد، الذي اختار أن يكون جارا لسكانها. فمباشرة بعد توليه العرش خلفا لوالده الحسن الثاني، عاد لينفض الغبار عن قصره الملكي هناك، ويقضي بعض أيام عطلته الصيفية بجوار الأبيض المتوسط، حيث ظل يمارس هوايته المفضلة، وقتها، وهي رياضة التجيتسكي، قبل أن يكتشف أن هذه القرية الصغيرة ليست في حاجة إلا إلى بعض الروتوشات التي ستجعل منها مدينة سياحية بامتياز. لذلك لا يتردد سكان المنطقة في الحديث على أن ما حدث كان ثورة حقيقية حولتها إلى واحدة من أجمل مدن المغرب. كان لا بد لتلك الطريق الضيقة التي كانت مجرد محطة للمرور أن تصبح شيئا آخر، فتغيرت كل المعالم، وأصبحت الطريق سيارة ما بين تطوان والمضيق في اتجاه الفنديق وباب سبتة. ويخيل للزائر أنه في حضرة مدينة جديدة نبتت بسرعة على أنقاض قرية كانت ملجأ للصيادين فقط.
أما الحدائق والمناطق الخضراء والأشجار الباسقة، فتزين المسافة الفاصلة بين المدن الثلاث. لذلك يشبهها البعض بإفران الثانية. هذه المدينة التي جعلها الملك الراحل منتزهه المفضل بعد أن وضع لها شروطا خاصة في البناء والمعمار والاهتمام أكثر بالمناطق الخضراء.
في حين لا بد أن تثير انتباه الزائر علامات التشوير والإشارات الطرقية التي تكاد تكون استثناء. فعلامة قف تنير بضوء أحمر في المضيق. وعلامة مرور الراجلين، تشتعل بضوئها الأخضر. أما تحديد السرعة فيرسم على شاشة صغيرة على الجانب الأيمن من الطريق كتبت عليها بالأرقام، حدود السرعة التي تسير بها السيارة القادمة من وإلى الرينكون أو الكاستيخو.
«إنها إشارات تنبيه»، يشرح أحد رجال الأمن، التي يفضل أن يسميها بالعملية الاستباقية. وهي تجربة فريدة نجحت الجماعات المحلية في تثبيتها بمعية مصالح الأمن، فقط لأن ملك البلاد يسكن المنطقة. لذلك أرادت أن تنبه زوارها من السائقين قبل أن يرتكبوا مخالفة سير. فتحديد السرعة في مدينة ملكية كالمضيق، له خصوصيته بالضرورة.
سمك الرينكون
على كورنيش المضيق، ثمة مقاهي ومطاعم تقدم لزبنائها السمك الأبيض المتوسط الشهير. إنه الوجبة المفضلة هنا في الرينكون، حيث تأتي أعداد كبيرة من سكان سبتة المحتلة أو من بعض المدن الإسبانية لتناوله. ولا غرابة أن ملك البلاد سيكتشف أن هذا الأبيض المتوسط غني بسمكه اللذيذ، والذي سيصبح صيده بالقصبة أو عن طريق الغطس، واحدا من هواياته المفضلة.
يحكي بعض الصيادين الذين استفادوا من حب ملك البلاد لقريتهم السابقة، كيف أن محمد السادس عاشق، وإن كان في صمت، للصيد بواسطة القصبة أو عن طريق الغطس. ويحكي هؤلاء، بالكثير من الثقة في النفس، كيف أن الملك يعشق صيد الباجو روايال، أو سمك الميرو الشهير. وحينما يقرر أن يركب البحر، لا لكي يقود دراجة الدجيتسكي، ولكن لكي يتحول إلى صياد يجرب تجربة الانتظار والصبر الطويل، تتجه بعض المراكب الصغيرة لكي تصطاد لملك البلاد سمكا خاصا، وهو عبارة عن واحد من أخطبوط البحر الذي يتم الاحتفاظ به طريا في «أكواريوم» بداخل اليخت العملاق، الذي ينتقل من ميناء مارينا سمير المجاور للقصر الملكي في اتجاه عمق البحر.
أما الوجهة التي يفضلها محمد السادس، فهي، حسب عدد من الصيادين الذين قد يلتقيهم في عرض البحر، والعارفين بخريطة البحر، المنطقة التي يطلق عليها اسم « المقطوعة» على مقربة من «الكابو نيكرو» كما يسميه أهل الشمال. وهي المنطقة التي تبعد بحوالي خمسة كيلومترات عن المضيق. وتمتاز «المقطوعة» بمياهها الصافية حيث تشبه ميناء طبيعيا يعرف بوجود سمك الباجو بوفرة. ثاني وجهة صيد للملك، هي المنطقة التي يسميها الإسبان «الكانطو»، والتي يعشقون سمكها بجنون لدرجة أنهم يتسللون إليها ليلا من أجل الظفر بواحدة من سمك الميرو، الذي يقول عنه جيراننا مقولتهم الشهيرة: «في البر يفضل لحم الخروف، وفي البحر لا شيء يعلو على لحم الميرو».
هذه هي الرينكون التي عشقها الملك وعشق سمكها. وهو نفس السمك الذي تتفنن مطاعم المدينة في تقديمه لزوارها. لذلك ظلت جل خطواته الاجتماعية تسير في اتجاه الاهتمام أكثر بقبيلة الصيادين، الذين أضحى يعرف أسماءهم، يقول مصدرنا. لذلك كانت العملية التي أقدم عليها من حوالي خمس سنوات، بتوزيع عدد من الدراجات النارية بصناديق لحمل السمك وبيعه، قد أدخلت الكثير من البهجة على نفوس سكان المضيق. لقد فهم الملك أن ثورة البحر الأبيض المتوسط من السمك لا تزال غنية وفي حاجة لاسثتمار أكبر. لذلك عرف ميناء الرينكون إصلاحات جذرية جعلته قادرا على استقبال بواخر من حجم كبير، خصوصا أن ساكنة المنطقة لا تعيش إلا بثروة البحر كمورد رزق قار، فيما يشكل التهريب والاتجار في المخدرات عملا غير مضمون العواقب.
ولا غرابة أن المنطقة عاشت لسنوات تهميشا غير مفهوم فرض عليها الانخراط في هذا النوع من الأنشطة غير المشروعة. لذلك يفخر الشماليون اليوم بأن ملكهم، وهي صيغة تتردد كثيرا هنا بين السكان، اختار أن تكون انطلاقة الشمال من مشروع الميناء المتوسطي الضخم.
على كورنيش الرينكون
كورنيش المضيق يغري بالمشي صباحا ومساء. وخلفه توسعت الطرقات والشوارع، وانطلقت مشاريع البناء لتمتد إلى مساحات كانت من قبل مجرد خلاء، وتشعر وكأن هذه القرية الصغيرة غيرت جلدها بسرعة قياسية، خصوصا أن مقام الملك بها، أصبح يمتد لأشهر طويلة. لذلك ظل القائمون بأمر المدينة يسرعون في وتيرة الأشغال خوفا من غضبة الملك.
ويحكي سكان الرينكون عن مسجد يحمل اسمه، لم يفتح أبوابه في وجه المصلين إلا حينما أعلن عن غضبة من غضباته، لدرجة فرضت على المقاولة المعنية بالبناء، الاشتغال ليلا ونهارا لكي يكون مسجد محمد السادس جاهزا في زمن قياسي.
نفس الوضع عاشه أحد المستشفيات التي دشنها الملك، بعد أن تركه مجهزا بأحدث المعدات الطبية، لتكون المفاجأة غير السارة التي استفاق عليها السكان، هي أن تلك المعدات لم تكن إلا للديكور لأنها اختفت، وعادت من حيث جيء بها، قبل أن يغلق المستشفى أبوابه. لكن أهل المضيق لم يتركوا الفرصة تمر، وخرجوا للاحتجاج لتصل أصواتهم إلى حيث يسكن ملك البلاد. والحصيلة هي أن المسؤولين عن هذا الذي حدث، نالوا جزاءهم وأعيد فتح المستشفى من جديد.
لم تكن «الرينكون» تحلم بكل هذا النعيم الذي طالها على يد محمد السادس، الذي اكتشف فيها قرية قد تتحول إلى مدينة تغري الزائرين، خصوصا بعد أن تغيرت ملامح شوارعها وطرقها، ومنحتها الخضرة تلك النضارة التي تجعل منها بالقوة والفعل إفران الشمال.
غير أن أكبر الإنجازات كانت مع إيلاء قضية الصيد الأهمية التي تستحقها في منطقة تنعم بأنواع سمك خاصة. لذلك ففتح خيرات البحر الأبيض المتوسط أمام السكان كان هو الوصفة التي تحتاجها المنطقة لكي تترك خلف ظهرها حكايات التهريب، الذي أضر باقتصاد البلد، وحكايات الاتجار في المخدرات، التي فتحت على المغرب الكثير من الويلات. وهو ما أصبح اليوم واحدا من العلامات المميزة للرينكون.
محمد السادس يجاور سكان الرينكون
لم يعد مقام الملك في قصره بالمضيق، هذه القرية الصغيرة التي كانت تحتضن الصيادين قبل أن تتحول اليوم إلى عمالة قائمة الذات، يثير الانتباه. لقد أعتاد أن يخرج بين الفينة والأخرى إلى حيث يوجد ناس المضيق ليستمع لأحاديثهم وشكاويهم أيضا.
أما في رحلاته البحرية، فقد ظل مصرا على التوقف كلما التقى صيادا هناك في عرض الأبيض المتوسط لكي يسأله عن حصيلة يومه. ويحكي بعض الذين التقوا محمد السادس، كيف كان ينصت لهم ويستمع لشروحاتهم. لكنه ظل يرفض كل هداياهم من سمك اصطادوه بعد أن يشعرهم أنه اصطاد هو الآخر ما يكفي لوجبة طعامه، التي يقول البعض إنه هو من ظل يعدها بمفرده وفق طقوس الصيد. وهي التقنية التي تعلمها يوم كان وليا للعهد، ويوم كانت المضيق من المناطق المحببة لديه. لكنه سيقبل هدية من صياد تجرأ لكي يقول له: «هذه هدية ليست لك، ولكنها لولي عهدك الأمير مولاي الحسن».
يحكي أحد المولعين بالغطس بحثا عن سمك الأبيض المتوسط اللذيذ، كيف أن محمد السادس في السنوات الأولى من توليه العرش، ظل يختار المضيق لممارسة رياضته المفضلة التجيتسكي. أما المكان المحدد، فقد كان هو المقطوعة. تلك الصخرة الكبيرة التي نحتتها مياه البحر، والتي استعار لها سكان الشمال اسم ميامي الشمال. هناك، ظل بعض علية القوم يوقفون «اللانشات» الفاخرة والبواخر الترفيهية ليشعلوا النيران على صخر المقطوعة لطهي ما لذ من سمك الميرو والباجو.
في هذا المكان، ظل الملك يقضي ساعاته راكبا «حصانه» البحري وهو يقطع ممرا أشبه بالكهف، يسميه أهل المنطقة «كهف الحمام». وتكمن صعوبة هذا الممر في ضيقه، وفي الظلمة التي تطاله، مما يجعل قطعه عن طريق دراجة التجيتسكي ليس بالأمر السهل. لذلك قال بعض الذين وصفوا لنا عالم محمد السادس في عرض البحر الأبيض المتوسط، إنه مغامرة.
إنصاف ومصالحة
حينما نسترجع اليوم صور «الرينكون» وهي لا تزال مجرد قرية للصيادين، لنقارنها بما تعيشه اليوم، لا بد أن نطرح السؤال: هل حدث ذلك فقط لأن ملك البلاد اكتشف فضاء جميلا لممارسة رياضته المفضلة الدجيتسكي ولصيد سمك الباجو والميرو، لذلك غير من كل ملامحها وجعلها قبلة للزائرين؟ أم إنه اختيار بخلفية سياسية أراد بها الملك أن يداوي جراحا لا تزال لم تندمل بعد في نفوس أهل الشمال، الذين وصفهم والده الحسن الثاني ذات غضب اجتماعي، بالأوباش؟
إنه السؤال الذي يطرحه أهل الشمال في تطوان، والمضيق، والفنيدق، ومارتيل والرأس الأخضر، ووادي لو، لأن الكثير من مناطق المغرب التي عانت من سنوات الرصاص اجتماعيا واقتصاديا، لا تزال تنتظر، هي الأخرى، نصيبها من اهتمام الملك من أجل أن يكون الإنصاف والمصالحة إنصافا ومصالحة لكل الوطن.
معارك مارينا سمير وكابيلا
يذكر أهل الشمال حكايات تلك الإقامات الفاخرة التي نبتت كالفطر على امتداد شاطئ المضيق والفنيدق والرأس الأخضر. وهي عبارة عن فيلات وشاليهات من الطراز الكبير استوطنها علية القوم الذين جعلوها مجرد سكن ثانوي يقضون به أشهر الصيف.
وتبدو هذه الإقامات ممتدة من حدود القصر الملكي بالمضيق، إلى تخوم الفنيدق عبر مسميات كمارينا سمير، وكابيلا، وقصر الرمال ومارينا بيتش، وغيرها. حيث قام بعض علية القوم في سنوات الرصاص الاجتماعي، بالسطو على تلك الأراضي الشاسعة المحيطة بالبحر، ومنعوا المواطنين من الاقتراب منها، بعد أن وضعوا بها المتاريس والأسلاك الشائكة، وحولوها إلى شواطئ خاصة جدا.
اليوم يشعر سكان المضيق والفنيدق ومارتيل والرأس الأخضر، أن الكثير من الأمور تغيرت بعد أن خرج المواطنون في مسيرات احتجاجة على احتلال الملك البحري، ومنع المصطافين من الاقتراب منه. ونجحوا في إيصال صوتهم لمن يعنيهم الأمر. وهو الصوت الذي ظل يقول، إنهم ضد تفويت شواطئ الأبيض المتوسط للمحظوظين.
ثاني المعارك، هي تلك التي دخلها سكان المنطقة في السنوات الأخيرة الماضية، ضد عمليات نزع الملكية فيما عرف بمشروع «تمودا باي» السياحي، الممتد على طول المنطقة الشاطئية من المضيق إلى الفنيدق، مرورا بمارتيل والرأس الأخضر، وهي معركة يبدو أنها لا تزال مشتعلة حيث لم تقو الوكالة الحضرية لتطوان على الحسم فيها بشكل نهائي.
* مدينة ميديا : المساء عدد :2374 – 14/05/2014 ” أحمد أمشكح ”